عثمان الشيخ يكتب: الانفلات من قبضة السرد التقليدى

الهندى الأحمر الأخير
الهندى الأحمر الأخير

أن تباغت نفسك بقراءة قصة قصيرة من بين مجموعة من القصص؛ مجازفة غير مأمونه العواقب، فإما أن تترك المجموعة للأبد أو أن تقع فى غرامها، وهذه القصة هى «الغافلون عن جوناثان بميدان بيكادللي» قصة قصيرة من المجموعة القصصية (الهندى الأحمر الأخير.. ماتاواشيش وقصص مهاجرة) للكاتب السعودى طارق الجارد. وذكر جنسية الكاتب هنا، مُهم؛ لأنه يخدم قراءة المجموعة، والتى تدور كلها فى عوالم بعيدة عن عوالم الكاتب التى نشأ فيها وشكّلت خلفيته التراثية والثقافية أو هذا ما اعتقده.


المجموعة التى تقع فى 90 صفحة من القطع المتوسط وتحتوى على 15 قصة قصيرة، صدرت عن دار كلمات فى العام 2021. فغير غرابة عنوان المجموعة وطوله، نجد أيضاً بأن عناوين  القصص الداخلية طويلة، وهو أول ملمح تجريبى استخدمه الكاتب، إضافة إلى احتواء المجموعة على صور فوتوغرافية حقيقية، مرفقة مع القصص وتعبّر عنها. مع تزييل كل قصة بزمن كتابتها وقد تراوحت أزمنة الكتابة بين العام 2011 و2016 وكتبت كلها فى مدينة مونتريال بكندا.


كما لا يوجد إهداء فى البداية أو كلمة ناشر أو تقديم من كاتب أو ناقد أو حتى سيرة ذاتية للكاتب. ولا توجد أيضاً جُمل افتتاحية للقصص ما عدا قصتين  «لماذا تسقط بغداد» و» الخيار الصعب لمبرمج حاسوب هوكينق». وبذلك يكون الكاتب قد كسر كثيرًا من تقاليد التأليف المتعارف عليها، وهذه مسألة تُحسب له.


تتحرّك المجموعة فى عدد من الفضاءات منها السياسية والتاريخية وعوالم الطبخ والموسيقى وخوارزميات الفيسبوك والمطارات والساحات العامة وغرف المستشفيات وغُرف النّحت. فتجد قصة تتحدث عن المغول وصدام حسين، وقصة أخرى عن فيدل كاسترو، وأخرى عن فريد هامتون قائد البلاك بانثر وليلته الأخيرة أثناء حملته الانتخابية، وأخرى عن الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين. وأخرى عن العبقرى ستيفن هوكينج.


 بلغة سردية رشيقة وبلا تعقيدات مزعجة؛ يتحرّك طارق فى عوالمه، ممسكاً بتلابيب قارئه بحيث لا يُحوّل ناظريه عن القصة حتى تكتمل. فإذا تحدّث عن ميدان بيكادللى فى لندن؛ كأنك تسير فيه وتُحصى عدد كاميرات المراقبة وتشعر ببرودة الطقس هناك وتتلفّت خشية أن يهجم عليك أحدهم فى النقاط العمياء لكاميرات المراقبة. لنقرأ مثلاً فى قصة «الغافلون عن جونثان بميدان بيكادللي» والتى تحكى عن جوناثان الذى يجلس أمام شاشة تعرض كاميرات مراقبة لشارع كبير: 


(توجد فى لندن أكثر من ثلاثة آلاف كاميرا مراقبة أى شيء لجوناثان، ما عدا الإحدى عشرة المسلطة على ميدان بيكادللي. جوناثان معنى برصد كل تلك الشاشات، إلا أن الكاميرا الأكثر قرباً إلى قلبه هى كاميرا رقم 3 حينما تحين الساعة الثامنة صباحا، وهو ما يعنى أن ذات الشعر الأحمر ستظهر فى الركن الأعلى والأيسر من الشاشة وهى تفتح محل الورود الواقع فى أحد الشوارع الحجرية التى تصب فى ميدان بيكادللى).


 يعتمد على قدرة وصفية جيّدة ودقيقة، تجعلك مُلماً بأجواء المكان، بحيث أنه لو قُدّر لك وصفه؛ فلن يعجزك شيء. لنقرأ جزاء من قصة «إمابير ستايت» والتى تحكى عن قصة لصورة أجمل انتحار التى تم نشرها فى مجلة الحياة عام 1974:


(آخـر مـا أذكره أننى كنت على الناصيـة بيـن الجـادة الخامسة والشارع الرابع والثلاثين غرباً، ولا أدرى كيف ومتى أصبحت أحلق أمام طوابق الإمباير ستايت المئة وأثنين، هذه الحالة تذكرنى بالمرة التى قفزت فيها من منصة المسبح ذات الأمتار العشرة فى طفولتي. بعد شقلبتين عبثيتين مرعبتين، ينعدم فيهما إحساسك بالجاذبية.

وتفقد وعيـك بالفـوق والتحت، يتباطأ الزمـن فتتيقظ حواسـك لـكـل مـا حـولـك ويتسارع تفكيرك، ولا يرده إلى تسارعه المعتاد سـوى ارتطامك بصفحة الماء، هذه الحالة التـى أمـر بهـا أمام الإمباير ستايت، تذكرنى بالثلاثة والثلاثين منتحـراً الذين قفزوا مـن هـذا المبنى العملاق، تحديدا: إيفيلـن ماكهيـل، لقـد غادرت الحياة بكامل أناقتها، بجسد حافظ على تماسكه على الرغـم مـن سـقـوطه من خمسة وثمانين طابقا ، فسميت صورتها تلك بالانتحار الأجمـل على الإطلاق.)


أما فى قصة « ماتاواشيش أو الهندى الأحمر ما قبل الأخير فى كندا» فسيقودك طارق معه إلى أول مره التقاه فيها؛ لتعرفه دون خوف:
(رأيت ماتاواشيش ثمانـى مـرات، أول مرة كان يعرج على قدمين، إحداهما مهترئة متورمة مهملة باتجاه المستشفى، لم تبـد علـى وجهه سمات الألم. وبعدهـا ببضعة أيام، أتى يكلمنـى فـى مـوقـف السيارات أمام المستشفى، يظن أننى أحمل قداحة لكى يشعل بها سيجارته. لوقع خطواتـه هـذه المرة فرقعة مختلفة، لـم تـبـد على وجهـه سـمات الخجـل مـن ساقه الاصطناعية الجديدة!) .


هذه القصص وغيرها مما حوته المجموعة، تُمثّل عندى سردا حديثا ينّفلت من قبضة السرد الكلاسيكى القديم ويفتح بابا جديدا لسرد يُمازج بين الواقع والمتخيّل والخاطرة والسيرة الذاتية. يُستلّهم فيه التاريخ السياسى والصور الفتوغرافية وأدوات المطبخ وعُشب الشارع العام. تمّتزج فيه خوارزميات الميديا الحديثة مع سمك السلمون وحبات القهوة.

 

اقرأ ايضا | إسراء النمر تكتب .. مكتبة الأسرة عودة روح أم حلاوة روح؟